الدروس والعظات من الهجرة:
1- تقدم إسلام آل أبي بكر (( لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين )).
2- اهتمام أبي بكر بأهل بيته وإصلاحهم والبدء بهم قبل غيرهم.
3- منـزلة أبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم وصلته الوثيقة به، ومعايشته لأمر الدعوة منذ بزوغ فجرها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يزوره كل يوم مرتين.
4- إن تفكير أبي بكر في الخروج من مكة مهاجراً لوحده مع منـزلته وأهميته للدعوة وصلته الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكشف عن مدى الأذى والشدة التي تلحقها قريش بالمسلمين، هذا مع أن أبا بكر من الأشراف ومن الذين يجدون منعة في قومهم فكيف بالضعفاء والعبيد!!.
5- أن أمن الدين هو الأصل عند المسلم فإن وجد عليه خطراً دفع بلده وماله وأهله حماية لدينه، ولهذا خرج أبو بكر مهاجراً وحده تاركاً كل شيء خلف ظهره يطلب الأمان لدينه ودعوته.
6- بلد المسلم ووطنه هو الذي يتمكن فيه من إظهار دينه ودعوته فيه، ولهذا خرج أبو بكر على الرغم من أفضلية بلده على سائر البلدان، وعلى المسلم أن لا يركن إلى الذل والهوان بل يعمل تفكيره في الخروج من الحصار المضروب على دينه ودعوته، ويبحث عن موطن موافق أو مسالم لها، حتى يتمكن من تحقيق عبوديته لله تعالى.
7- التقارب والتشابه بين صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وصفات أبي بكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قالت له خديجة: (( كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف... )) وأبو بكر يقول له ابن الدغنة: (( مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف... )).
8- ينبغي للمسلم أن ينافس على خصال الخير المتعدية فإن هذا أدعى لرضا الله تعالى عنه، وقبول الخلق ما لديه، وكما قيل في وصف أهل السنة والجماعة (( أعلم الناس بالحق وأرحمهم للخلق )) ونفع الناس أعظم من نوافل العبادات (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ )).
9- إن الأعمال المتعدية تكسب الثقة والمنـزلة في قلوب الناس مهما كانوا، فالناس لا ينظرون إلى العبادات الشخصية بقدر ما يراعون تجاوب الرجل مع مشاكلهم، ومشاركته الفاعلة في حياتهم.
فأبو بكر كسب ثقة ابن الدغنة وهو مشرك، فأجاره ورد على قريش على ملأ منهم، ولم يستطيعوا التنكر لذلك لشهرة تلك الصفات عن أبي بكر.
10- تقدير العرب للعادات الكريمة والصفات الحميدة وقيام العظماء والشرفاء في صف صاحبها، وهذا يفسر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))()، وقول الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).
11- الاستفادة من تقاليد المجتمع وأنظمته في خدمة الدعوة بما لا يتعارض مع أوامر الله ورسوله، فقد تجاوب أبو بكر مع ابن الدغنة، واستفاد من جواره، ورجع إلى بيته.
12- مصادرة صوت الحق وتجفيف منابعه، فالكفار لم يكتفوا بتشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وبث الدعايات الكاذبة عليهم، وإيراد الإيرادات الواهية على منهجه وتعاليمه، لأنهم يعلمون أن الناس ليس كلهم إمعات يقبلون كل ما يقال لهم، بل إن أول الناس بعداً عن الاقتناع بطرحهم هم أبناؤهم ونساؤهم، فالدعايات لا تغير كل قناعات الناس، ولهذا وعلى الرغم من تلك المحاربة الإعلامية والعقبات الكبيرة التي وضعتها قريش أمام الدعوة، فإنها تخشى على أبنائها ونسائها من سماع صوت الحق فيقتنعوا به.
13- الكفار وأهل الباطل يصادرون حريات التفكير ولا يجعلون للناس مجالاً للاختيار، أو فرصة في المعرفة، بل يعتبرون سواهم ليسوا على مستوى معرفة المصالح والمفاسد، ويجعلون لهم وحدهم تلك المعرفة وما على المجتمع إلا اتباعهم والانقياد لما يرسمون ويخططون لهم، فهم يفكرون عنهم ويوقعون بالنيابة عنهم ويسالمون ويعادون بالوكالة!! وإلا فيا معشر قريش أليس أبناؤكم وعبيدكم ونساؤكم منكم فلِمَ تمنعونهم من سماع صوت الحق أم ليسوا على مستوى النقد والتمييز مثلكم.
وفي هذا درس لأهل العلم والدعوة، فلا ينبغي أن يضيرهم تشويه صورتهم وإيذاؤهم، ومصادرة حرياتهم وكلماتهم، فيسري إليهم اليأس فيتصوروا عدم قبول الناس لهم بسبب تلك الدعايات المضللة، فهاهم أبناء قريش ونساؤهم يغدون على أبي بكر لسماع القرآن الذي طالما سمعوا الكلام الباطل فيه وطالما حاولت قريش التشويش عليه!!.
فمهما بلغت دعايات أهل الباطل واتهاماتهم ومحاربتهم للدين وللدعوة فإن للحق طلاباً، والناس ليس كلهم إمعات يقبلون كل ما يقال لهم، فدعايات الباطل لم تؤثر في نساء قريش وأبنائهم فضلاً عن الآخرين.
14- الجهر بالحق والدعوة إليه هو الأصل في هذا الدين، والاستسرار والكتمان والاختفاء بالعبادة طارئ يلجأ إليه لوقت محدود، ولظرف طارئ، ولمصلحة راجحة، أما أن يبقى المسلم دائماً مختفياً فهذا يتنافى مع دعوته التي أمر أن يخرج الناس بها من الظلمات إلى النور، وإن تعرض للأذى، ولهذا بنى أبو بكر مسجداً بفناء بيته واستعلن في صلاته وقراءته.
15- إن جميع الكفار في كل العصور على اختلاف مللهم ونحلهم لا يمانعون من قيام الرجل بعبادة فردية داخل منـزله ولا يعلن بذلك، لأنهم يعلمون زيف معتقدهم وفساد منهجهم وضمور آرائهم، وأنه يمكن تحطيمها بمجرد الإعلان بقراءة القرآن بفناء البيت، فمبادئهم لا تقف لحظة أمام الحق، كالظلام الضارب أطنابه على الأرض سرعان ما ينقشع أمام شعلة النور.
16- لقد فزعت قريش من تأثر الناس بأبي بكر وصلاته وهو لا يملك أي وسيلة إعلامية، ولم يتقدم بدعوة أحد، أو يعقد مجلس مناظرة أو حوار مع ذرياتهم.
17- وصف الكفار وأهل الباطل لكل ما يخالف هواهم ومذهبهم بأنه فتنة للناس، قالت قريش عن أبي بكر: (( فإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا )) فأبو بكر يثير الفتن في مفهوم قريش العقيم، فالكفار لا يبالون بالتزوير وتغيير الحقائق وإطلاق الألفاظ غير المحسوبة على ما يشاؤون، وإلا متى كان الحق والخير والصلاح فتنة للنساء والأبناء.
18- يعتبر من صلى جهاراً وقرأ القرآن علانية ولوكان داخل فناء منـزله قد تعدى وتجاوز في نظر قريش فترفع لابن الدغنة احتجاجها بأن أبا بكر: (( قد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره )).
19- عجباً لأهل الباطل لا يكفيهم حكم الأرض ومن عليها، بل يرون أن لهم الحق حتى في تفكير الناس وآرائهم وليس لهم الحق حتى في قراءاتهم في منازلهم، فقريش لن تقر لأبي بكر أن يقرأ بفناء بيته ولنفسه، فهي تقول لابن الدغنة: (( ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان )) وقد أراد فرعون أن يتحكم في القلوب كما قال للسحرة لما آمنوا: في قوله تعالى: {آمنتم له قبل أن آذن لكم}.
20- يضفي أهل الضلال القداسة على مبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم الباطلة، ويوقعون العقوبة على من خالفها، ولكن متى بدت لهم مصلحة أو لاح لهم في الأفق منفعة ضربوا بأنظمتهم عرض الحائط، وعندهم استعداد للانقسام والانشطار متى ما تعرضت مصالحهم للخطر، فعند ذلك فلا عهد ولا ذمة وإن كان المخالف من الرفاق والأصحاب، فهذه قريش تنوي خفر ذمة ابن الدغنة ونبذ عهده لمجرد مخالفة بسيطة في المعاهدة، فبدلاً من أن يصلي أبو بكر داخل البيت صلى في فناء البيت، فطلبوا ابن الدغنة وقالوا له في صيغة التهديد: (( فإنا كرهنا أن نخفرك )).
21- قد يقوم فاجر بالحدب على المسلم والدفاع عنه وقد يبدي احترامه لفكرته أو رأيه، ولكن مما ينبغي التفطن له أن هذا لا يكون إلا بصورة محدودة وبما لا يتعارض مع مصلحته وسمعته، وأنه عنده الاستعداد للتخلي عن حمايته بمجرد تعرض سمعته إلى خطر، فهذا ابن الدغنة لما هددته قريش بسمعته طلب من أبي بكر رد جواره وقال له: (( فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له )).
22- التوكل على الله والانتصار به والالتجاء إليه والثقة بنصره هو معتقد المسلم الذي لا يفارقه أبداً، مع الشجاعة ونبذ الخوف من المخلوقين ما دام يأوي إلى ركن شديد قال أبو بكر لابن الدغنة (( أرد جوارك وأرضى بجوار الله )) قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، وقال: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12)، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان: 58)، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل )).
23- لقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة ولم يختر صاحباً له في الهجرة غير أبي بكر، وفي هذا دلالة على عظم الصلة وقوة الرابطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم: (( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي )).
24- لقد تجهز أبو بكر للهجرة ثانية بنفسه إلى المدينة، ولكن بعدما عرّض له الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحبة جلس وتحمل الأذى والعنت والتعب من قريش طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في مصاحبته (( فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه )).
25- مبادرة أبي بكر في الترتيب لأمر الهجرة، وبذل المال في خدمة دعوته بدون طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قام مباشرة بعد تعريض الرسول صلى الله عليه وسلم له بالصحبة بتعليف راحلتين كانتا عنده، إذ مثل هذا من بدهيات الهجرة فلا تحتاج إلى أمر يتلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يربيهم تربية العبيد تربية الخنوع وإلغاء العقل مع المتبوع.
26- مقابلة التخطيط بالتخطيط، والتنظيم بالتنظيم، والترتيب بالترتيب، فقريش تخطط وترتب للإيقاع بالدعوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يخطط ويرتب للنجاة بها، وهذا يوضح أن الاستسرار فيما يخدم الإسلام بما لا يتعلق به بلاغ ولا بيان ولا يترتب على إسراره كتمان للدين أو سكوت عن حق من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يتعارض التخطيط وأخذ الحيطة مع التوكل على الله تعالى، لأن الأخذ بالأسباب جزء من التوكل على الله تعالى.
27- وإن من أعظم مظاهر التضحية في هذه الهجرة أن يغادر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هذا البلد الأمين الحبيب إلى قلوبهم -بل وإلى قلوب جميع المسلمين- مغادرة يعلمون أن لا استقرار لهم فيه بعدها، وهذا من أشق الأمور على النفس، ولكن رجال العقيدة يسترخصون في سبيلها كل غال.
ولقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى -معنى صعوبة مغادرة مكة وفراقها فراقاً لا سكنى بعده- في العديد من المواقف المؤثرة.
عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزْورة فقال: (( والله والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت )).
28- تربية أبي بكر رضي الله عنه لأسرته على الأمانة ونصرة هذا الدين وإحاطته وحفظه وبذل ما يملكون في سبيل ذلك، وكان واثقاً أتم الثقة بتربيته فقال للرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره بإخراج من عنده: (( لا عين عليك ))، (( إنما هم أهلك يا رسول الله )).
29- الرغبة في مصاحبة أهل الخير مهما ترتب على ذلك من أخطار، قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: (( الصحبة يا رسول الله )).
30- منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر أوصلته إلى البكاء من الفرح لما أخبره بمصاحبته في الهجرة.
31- الرغبة في المساهمة في طريق الخير وعدم الاعتماد على الآخرين في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أبى أن يركب راحلة ليست له حتى اشتراها من أبي بكر بالثمن، حتى تكون هجرته بماله ونفسه رغبة في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتم أحوالهما.
32- أسرة أبي بكر تشارك بمجموعها في إنجاح خطة الهجرة النبوية.
33- الاستفادة من خبرات وطاقات المجتمع وتوظيفها في المجالات المناسبة، فعبد الله بن أبي بكر للأخبار، وعامر للشراب، وأسماء وعائشة لتجهيز الطعام وهكذا.
34- الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن حالهم، ولم يكن لهم شوكة في التأثير على القرار، وعرفوا واشتهروا بما يراد منهم، ولم يكن أحد من المسلمين يسد هذه الوظيفة، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تفرض عليهم الأمانة في أداء تلك المهمة.
35- اتخاذ الأسباب والاحتياطات التامة، ثم التوكل على الله تعالى والثقة المطلقة به والاطمئنان لنصره، وعدم الاتكال على الأسباب ذاتها، قال أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا قال: (( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )).
36- إن نصر الله فوق كل نصر، وقدرة الله فوق كل قدرة، وأمر الله فوق كل أمر، وتأييده يتحدى كل قدرات البشر وطاقاتهم، فهذه قريش صاحبة السلطة وتحت يدها السلاح والرجال والأموال ومع ذلك لم تستطع أن تهتدي إليهم في الغار.
37- اهتمام أبي بكر بالرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على نفسه، فقد ذهب يبحث له في الطريق عن ظل يقيل فيه.
38- لقد استولت سلامة الرسول صلى الله عليه وسلم على جل تفكير أبي بكر، فما أن وجد ظلاً يقيل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقام بتجهيزه وتنظيفه حتى يضطجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما هو فقد نسي نفسه من القيلولة وذهب ينظر (( هل يرى من طلب )).
39- الأدب الجم وحسن المخاطبة مع الأمانة يتجلى ذلك في مخاطبة أبي بكر لراعي قريش لعله يحلب لهم، مع أن الركب في حال حرب مع قريش وقد سطت قريش على أموال المسلمين وبيوتهم.
40- اهتمام أبي بكر بغذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث النظافة والحالة الجيدة وتقديمه على نفسه في ذلك مع فرحه بشربه، على الرغم مما هو فيه من الشدة والخوف، فقد أمر الراعي بتنظيف يديه، ثم جعل الحليب في إناء برّده فيه، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ثم شرب حتى رضيت )).
41- أدب أبي بكر في مخاطبته للرسول صلى الله عليه وسلم (( آن الرحيل يا رسول الله )).
42- تعميم قريش على جميع القبائل في القبض على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.
43- بذل قريش المال لرصد المعلومات ومضايقة الأخيار وهذا أسلوب يستمال به ضعاف النفوس.
44- رصد جائزة كبيرة لمن أتى بهم، ولا شك أن هذه الجائزة لا يفي بها مال رجل واحد من قريش، وإنما أثقلت كاهل عدد من الأشراف، ولكن لا بأس بذلك ما دام الهدف هو القضاء على الإسلام، فلترصد ميزانية هذا العام وليعش الناس في تقشف. قال سراقة: (( جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما )).
45- من الدلائل على أن الجائزة المرصودة مغرية استنفار جميع القبائل للبحث عنهما، وتعتيم سراقة على قومه حتى يحظى بها وحده.
46- نجاح خطة وترتيبات الهجرة النبوية، فعلى الرغم من حرص قريش وتعميمها على القبائل وبذل الأموال في سبيل ذلك إلا أنه لم يدركهم منهم أحد غير سراقة.
47- لقد كان أبو بكر قلقاً على حياة رسول الله من أن يصيبها أذى، ولذلك يكثر الالتفات، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً من نصر ربه له، مطمئناً إلى ذلك لم يعبأ بالخطر مع قربه منه، ولم يستحق منه مجرد الالتفات، قال أبو بكر: (( هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) )).
48- لقد قرب سراقة منهم وأصبح الخطر قاب قوسين أو أدنى، ولكن لا يأس من نصر الله ورحمته وحمايته، إن نصر الله يأتي العبد من حيث لم يحتسب، وحين يشتد الخطر يقرب الفرج قال سراقة: (( فعثرت بي فرسي فخررت عنها )) قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5 -6)، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهَمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
اشتدي أزمة تنفرجي قد آن ليلك بالبلج
49- أصحاب العقائد والمذاهب الباطلة عندهم استعداد للتخلي عن مبادئهم عند أي مصلحة تلوح في الأفق، فليس لهم مبدأ يحكمهم، ولا عقيدة يلتزمون بها تنظم حياتهم وتوجههم، فالاستقسام بالأزلام واتباعها من عقائد المشركين، ولكن ها هو سراقة يستقسم بالأزلام هل يضر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فيخرج لا يضرهم، يفعل ذلك مراراً فيخرج الذي يكره، فيعصي الأزلام ويلحق بهم لأن مصلحته تقتضي ذلك.
50- القرآن الكريم زاد المسلم في كل حال، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة الحال وقرب الخطر منه يقرأ القرآن وينشغل به حتى قرب منه سراقة وسمع تلاوته.
51- إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل كما يقال، ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال، فهذا سراقة يتحول من ملاحق لهم إلى مخبر عن كل ما يكاد لهم من مكائد، قال سراقة: (( فأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم )) وهكذا نصر الله وتأييده ينقلب به العدو المطارد لهم إلى ناصح معين.
52- استغناء الرسول صلى الله عليه وسلم عن متاع سراقة وزاده على الرغم من عرضه عليهم ذلك، قال سراقة: (( وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني )) وهذأ برهان عظيم لسراقة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن تقوده مصلحة دنيوية ومطلب مادي، وإنما يسعى لهدفٍ سامٍ ينبغي على سراقة أن يعمل ذهنه فيه.
53- توظيف الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة فيما يخدم الهجرة ولا يضير المسلمين إن لم يفعل ذلك وهو إخفاء أثرهما عن الناس، فلم يعطه سراً ولم يكل إليه عملاً مهماً.
54- فراسة سراقة وبعد نظره، فقد طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب أمان وهو المطارد الملاحق.
55- لقد ملأ الرسول صلى الله عليه وسلم قلبه وجوارحه ثقة بالله تعالى وتأييده ونصره له فيكتب لسراقة كتاب أمان ولم يقل كيف تطلب ذلك مني وأنا الشريد المطارد.
56- توجه الصحابة إلى التجارة والاستغناء عن الخلق والاعتماد على النفس، وتمويل الدعوة ذاتياً، فقد خرج الزبير مع بعض المسلمين تجاراً إلى الشام وفي طريق رجوعهم التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة.
57- شدة اهتمام الأنصار بالهجرة النبوية، وترقبهم لوصول القافلة الشريفة، واتخاذ جميع الترتيبات والاحتياطات الأمنية لاستقباله.
58- وفي إلحاح والد البراء بن عازب على أبي بكر بإخباره بأمر الهجرة دلالة على اهتمام الصحابة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
59- لا بأس بالحديث عن العمل الصالح إذا عزم عليه أخوه المسلم، وكان يرجى من ذكره النفع والفائدة، كما عزم عازب على أبي بكر بذلك وتحديث أبي بكر له بأمر الهجرة
1- تقدم إسلام آل أبي بكر (( لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين )).
2- اهتمام أبي بكر بأهل بيته وإصلاحهم والبدء بهم قبل غيرهم.
3- منـزلة أبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم وصلته الوثيقة به، ومعايشته لأمر الدعوة منذ بزوغ فجرها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يزوره كل يوم مرتين.
4- إن تفكير أبي بكر في الخروج من مكة مهاجراً لوحده مع منـزلته وأهميته للدعوة وصلته الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكشف عن مدى الأذى والشدة التي تلحقها قريش بالمسلمين، هذا مع أن أبا بكر من الأشراف ومن الذين يجدون منعة في قومهم فكيف بالضعفاء والعبيد!!.
5- أن أمن الدين هو الأصل عند المسلم فإن وجد عليه خطراً دفع بلده وماله وأهله حماية لدينه، ولهذا خرج أبو بكر مهاجراً وحده تاركاً كل شيء خلف ظهره يطلب الأمان لدينه ودعوته.
6- بلد المسلم ووطنه هو الذي يتمكن فيه من إظهار دينه ودعوته فيه، ولهذا خرج أبو بكر على الرغم من أفضلية بلده على سائر البلدان، وعلى المسلم أن لا يركن إلى الذل والهوان بل يعمل تفكيره في الخروج من الحصار المضروب على دينه ودعوته، ويبحث عن موطن موافق أو مسالم لها، حتى يتمكن من تحقيق عبوديته لله تعالى.
7- التقارب والتشابه بين صفات الرسول صلى الله عليه وسلم وصفات أبي بكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قالت له خديجة: (( كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف... )) وأبو بكر يقول له ابن الدغنة: (( مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف... )).
8- ينبغي للمسلم أن ينافس على خصال الخير المتعدية فإن هذا أدعى لرضا الله تعالى عنه، وقبول الخلق ما لديه، وكما قيل في وصف أهل السنة والجماعة (( أعلم الناس بالحق وأرحمهم للخلق )) ونفع الناس أعظم من نوافل العبادات (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ )).
9- إن الأعمال المتعدية تكسب الثقة والمنـزلة في قلوب الناس مهما كانوا، فالناس لا ينظرون إلى العبادات الشخصية بقدر ما يراعون تجاوب الرجل مع مشاكلهم، ومشاركته الفاعلة في حياتهم.
فأبو بكر كسب ثقة ابن الدغنة وهو مشرك، فأجاره ورد على قريش على ملأ منهم، ولم يستطيعوا التنكر لذلك لشهرة تلك الصفات عن أبي بكر.
10- تقدير العرب للعادات الكريمة والصفات الحميدة وقيام العظماء والشرفاء في صف صاحبها، وهذا يفسر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))()، وقول الله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).
11- الاستفادة من تقاليد المجتمع وأنظمته في خدمة الدعوة بما لا يتعارض مع أوامر الله ورسوله، فقد تجاوب أبو بكر مع ابن الدغنة، واستفاد من جواره، ورجع إلى بيته.
12- مصادرة صوت الحق وتجفيف منابعه، فالكفار لم يكتفوا بتشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وبث الدعايات الكاذبة عليهم، وإيراد الإيرادات الواهية على منهجه وتعاليمه، لأنهم يعلمون أن الناس ليس كلهم إمعات يقبلون كل ما يقال لهم، بل إن أول الناس بعداً عن الاقتناع بطرحهم هم أبناؤهم ونساؤهم، فالدعايات لا تغير كل قناعات الناس، ولهذا وعلى الرغم من تلك المحاربة الإعلامية والعقبات الكبيرة التي وضعتها قريش أمام الدعوة، فإنها تخشى على أبنائها ونسائها من سماع صوت الحق فيقتنعوا به.
13- الكفار وأهل الباطل يصادرون حريات التفكير ولا يجعلون للناس مجالاً للاختيار، أو فرصة في المعرفة، بل يعتبرون سواهم ليسوا على مستوى معرفة المصالح والمفاسد، ويجعلون لهم وحدهم تلك المعرفة وما على المجتمع إلا اتباعهم والانقياد لما يرسمون ويخططون لهم، فهم يفكرون عنهم ويوقعون بالنيابة عنهم ويسالمون ويعادون بالوكالة!! وإلا فيا معشر قريش أليس أبناؤكم وعبيدكم ونساؤكم منكم فلِمَ تمنعونهم من سماع صوت الحق أم ليسوا على مستوى النقد والتمييز مثلكم.
وفي هذا درس لأهل العلم والدعوة، فلا ينبغي أن يضيرهم تشويه صورتهم وإيذاؤهم، ومصادرة حرياتهم وكلماتهم، فيسري إليهم اليأس فيتصوروا عدم قبول الناس لهم بسبب تلك الدعايات المضللة، فهاهم أبناء قريش ونساؤهم يغدون على أبي بكر لسماع القرآن الذي طالما سمعوا الكلام الباطل فيه وطالما حاولت قريش التشويش عليه!!.
فمهما بلغت دعايات أهل الباطل واتهاماتهم ومحاربتهم للدين وللدعوة فإن للحق طلاباً، والناس ليس كلهم إمعات يقبلون كل ما يقال لهم، فدعايات الباطل لم تؤثر في نساء قريش وأبنائهم فضلاً عن الآخرين.
14- الجهر بالحق والدعوة إليه هو الأصل في هذا الدين، والاستسرار والكتمان والاختفاء بالعبادة طارئ يلجأ إليه لوقت محدود، ولظرف طارئ، ولمصلحة راجحة، أما أن يبقى المسلم دائماً مختفياً فهذا يتنافى مع دعوته التي أمر أن يخرج الناس بها من الظلمات إلى النور، وإن تعرض للأذى، ولهذا بنى أبو بكر مسجداً بفناء بيته واستعلن في صلاته وقراءته.
15- إن جميع الكفار في كل العصور على اختلاف مللهم ونحلهم لا يمانعون من قيام الرجل بعبادة فردية داخل منـزله ولا يعلن بذلك، لأنهم يعلمون زيف معتقدهم وفساد منهجهم وضمور آرائهم، وأنه يمكن تحطيمها بمجرد الإعلان بقراءة القرآن بفناء البيت، فمبادئهم لا تقف لحظة أمام الحق، كالظلام الضارب أطنابه على الأرض سرعان ما ينقشع أمام شعلة النور.
16- لقد فزعت قريش من تأثر الناس بأبي بكر وصلاته وهو لا يملك أي وسيلة إعلامية، ولم يتقدم بدعوة أحد، أو يعقد مجلس مناظرة أو حوار مع ذرياتهم.
17- وصف الكفار وأهل الباطل لكل ما يخالف هواهم ومذهبهم بأنه فتنة للناس، قالت قريش عن أبي بكر: (( فإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا )) فأبو بكر يثير الفتن في مفهوم قريش العقيم، فالكفار لا يبالون بالتزوير وتغيير الحقائق وإطلاق الألفاظ غير المحسوبة على ما يشاؤون، وإلا متى كان الحق والخير والصلاح فتنة للنساء والأبناء.
18- يعتبر من صلى جهاراً وقرأ القرآن علانية ولوكان داخل فناء منـزله قد تعدى وتجاوز في نظر قريش فترفع لابن الدغنة احتجاجها بأن أبا بكر: (( قد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره )).
19- عجباً لأهل الباطل لا يكفيهم حكم الأرض ومن عليها، بل يرون أن لهم الحق حتى في تفكير الناس وآرائهم وليس لهم الحق حتى في قراءاتهم في منازلهم، فقريش لن تقر لأبي بكر أن يقرأ بفناء بيته ولنفسه، فهي تقول لابن الدغنة: (( ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان )) وقد أراد فرعون أن يتحكم في القلوب كما قال للسحرة لما آمنوا: في قوله تعالى: {آمنتم له قبل أن آذن لكم}.
20- يضفي أهل الضلال القداسة على مبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم الباطلة، ويوقعون العقوبة على من خالفها، ولكن متى بدت لهم مصلحة أو لاح لهم في الأفق منفعة ضربوا بأنظمتهم عرض الحائط، وعندهم استعداد للانقسام والانشطار متى ما تعرضت مصالحهم للخطر، فعند ذلك فلا عهد ولا ذمة وإن كان المخالف من الرفاق والأصحاب، فهذه قريش تنوي خفر ذمة ابن الدغنة ونبذ عهده لمجرد مخالفة بسيطة في المعاهدة، فبدلاً من أن يصلي أبو بكر داخل البيت صلى في فناء البيت، فطلبوا ابن الدغنة وقالوا له في صيغة التهديد: (( فإنا كرهنا أن نخفرك )).
21- قد يقوم فاجر بالحدب على المسلم والدفاع عنه وقد يبدي احترامه لفكرته أو رأيه، ولكن مما ينبغي التفطن له أن هذا لا يكون إلا بصورة محدودة وبما لا يتعارض مع مصلحته وسمعته، وأنه عنده الاستعداد للتخلي عن حمايته بمجرد تعرض سمعته إلى خطر، فهذا ابن الدغنة لما هددته قريش بسمعته طلب من أبي بكر رد جواره وقال له: (( فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له )).
22- التوكل على الله والانتصار به والالتجاء إليه والثقة بنصره هو معتقد المسلم الذي لا يفارقه أبداً، مع الشجاعة ونبذ الخوف من المخلوقين ما دام يأوي إلى ركن شديد قال أبو بكر لابن الدغنة (( أرد جوارك وأرضى بجوار الله )) قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، وقال: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12)، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان: 58)، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل )).
23- لقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة ولم يختر صاحباً له في الهجرة غير أبي بكر، وفي هذا دلالة على عظم الصلة وقوة الرابطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم: (( على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي )).
24- لقد تجهز أبو بكر للهجرة ثانية بنفسه إلى المدينة، ولكن بعدما عرّض له الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحبة جلس وتحمل الأذى والعنت والتعب من قريش طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في مصاحبته (( فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه )).
25- مبادرة أبي بكر في الترتيب لأمر الهجرة، وبذل المال في خدمة دعوته بدون طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قام مباشرة بعد تعريض الرسول صلى الله عليه وسلم له بالصحبة بتعليف راحلتين كانتا عنده، إذ مثل هذا من بدهيات الهجرة فلا تحتاج إلى أمر يتلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا بيان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يربيهم تربية العبيد تربية الخنوع وإلغاء العقل مع المتبوع.
26- مقابلة التخطيط بالتخطيط، والتنظيم بالتنظيم، والترتيب بالترتيب، فقريش تخطط وترتب للإيقاع بالدعوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يخطط ويرتب للنجاة بها، وهذا يوضح أن الاستسرار فيما يخدم الإسلام بما لا يتعلق به بلاغ ولا بيان ولا يترتب على إسراره كتمان للدين أو سكوت عن حق من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يتعارض التخطيط وأخذ الحيطة مع التوكل على الله تعالى، لأن الأخذ بالأسباب جزء من التوكل على الله تعالى.
27- وإن من أعظم مظاهر التضحية في هذه الهجرة أن يغادر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هذا البلد الأمين الحبيب إلى قلوبهم -بل وإلى قلوب جميع المسلمين- مغادرة يعلمون أن لا استقرار لهم فيه بعدها، وهذا من أشق الأمور على النفس، ولكن رجال العقيدة يسترخصون في سبيلها كل غال.
ولقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى -معنى صعوبة مغادرة مكة وفراقها فراقاً لا سكنى بعده- في العديد من المواقف المؤثرة.
عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزْورة فقال: (( والله والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت )).
28- تربية أبي بكر رضي الله عنه لأسرته على الأمانة ونصرة هذا الدين وإحاطته وحفظه وبذل ما يملكون في سبيل ذلك، وكان واثقاً أتم الثقة بتربيته فقال للرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره بإخراج من عنده: (( لا عين عليك ))، (( إنما هم أهلك يا رسول الله )).
29- الرغبة في مصاحبة أهل الخير مهما ترتب على ذلك من أخطار، قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: (( الصحبة يا رسول الله )).
30- منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر أوصلته إلى البكاء من الفرح لما أخبره بمصاحبته في الهجرة.
31- الرغبة في المساهمة في طريق الخير وعدم الاعتماد على الآخرين في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أبى أن يركب راحلة ليست له حتى اشتراها من أبي بكر بالثمن، حتى تكون هجرته بماله ونفسه رغبة في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتم أحوالهما.
32- أسرة أبي بكر تشارك بمجموعها في إنجاح خطة الهجرة النبوية.
33- الاستفادة من خبرات وطاقات المجتمع وتوظيفها في المجالات المناسبة، فعبد الله بن أبي بكر للأخبار، وعامر للشراب، وأسماء وعائشة لتجهيز الطعام وهكذا.
34- الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن حالهم، ولم يكن لهم شوكة في التأثير على القرار، وعرفوا واشتهروا بما يراد منهم، ولم يكن أحد من المسلمين يسد هذه الوظيفة، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تفرض عليهم الأمانة في أداء تلك المهمة.
35- اتخاذ الأسباب والاحتياطات التامة، ثم التوكل على الله تعالى والثقة المطلقة به والاطمئنان لنصره، وعدم الاتكال على الأسباب ذاتها، قال أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا قال: (( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )).
36- إن نصر الله فوق كل نصر، وقدرة الله فوق كل قدرة، وأمر الله فوق كل أمر، وتأييده يتحدى كل قدرات البشر وطاقاتهم، فهذه قريش صاحبة السلطة وتحت يدها السلاح والرجال والأموال ومع ذلك لم تستطع أن تهتدي إليهم في الغار.
37- اهتمام أبي بكر بالرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على نفسه، فقد ذهب يبحث له في الطريق عن ظل يقيل فيه.
38- لقد استولت سلامة الرسول صلى الله عليه وسلم على جل تفكير أبي بكر، فما أن وجد ظلاً يقيل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقام بتجهيزه وتنظيفه حتى يضطجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما هو فقد نسي نفسه من القيلولة وذهب ينظر (( هل يرى من طلب )).
39- الأدب الجم وحسن المخاطبة مع الأمانة يتجلى ذلك في مخاطبة أبي بكر لراعي قريش لعله يحلب لهم، مع أن الركب في حال حرب مع قريش وقد سطت قريش على أموال المسلمين وبيوتهم.
40- اهتمام أبي بكر بغذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث النظافة والحالة الجيدة وتقديمه على نفسه في ذلك مع فرحه بشربه، على الرغم مما هو فيه من الشدة والخوف، فقد أمر الراعي بتنظيف يديه، ثم جعل الحليب في إناء برّده فيه، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ثم شرب حتى رضيت )).
41- أدب أبي بكر في مخاطبته للرسول صلى الله عليه وسلم (( آن الرحيل يا رسول الله )).
42- تعميم قريش على جميع القبائل في القبض على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.
43- بذل قريش المال لرصد المعلومات ومضايقة الأخيار وهذا أسلوب يستمال به ضعاف النفوس.
44- رصد جائزة كبيرة لمن أتى بهم، ولا شك أن هذه الجائزة لا يفي بها مال رجل واحد من قريش، وإنما أثقلت كاهل عدد من الأشراف، ولكن لا بأس بذلك ما دام الهدف هو القضاء على الإسلام، فلترصد ميزانية هذا العام وليعش الناس في تقشف. قال سراقة: (( جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما )).
45- من الدلائل على أن الجائزة المرصودة مغرية استنفار جميع القبائل للبحث عنهما، وتعتيم سراقة على قومه حتى يحظى بها وحده.
46- نجاح خطة وترتيبات الهجرة النبوية، فعلى الرغم من حرص قريش وتعميمها على القبائل وبذل الأموال في سبيل ذلك إلا أنه لم يدركهم منهم أحد غير سراقة.
47- لقد كان أبو بكر قلقاً على حياة رسول الله من أن يصيبها أذى، ولذلك يكثر الالتفات، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً من نصر ربه له، مطمئناً إلى ذلك لم يعبأ بالخطر مع قربه منه، ولم يستحق منه مجرد الالتفات، قال أبو بكر: (( هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) )).
48- لقد قرب سراقة منهم وأصبح الخطر قاب قوسين أو أدنى، ولكن لا يأس من نصر الله ورحمته وحمايته، إن نصر الله يأتي العبد من حيث لم يحتسب، وحين يشتد الخطر يقرب الفرج قال سراقة: (( فعثرت بي فرسي فخررت عنها )) قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5 -6)، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهَمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110).
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
اشتدي أزمة تنفرجي قد آن ليلك بالبلج
49- أصحاب العقائد والمذاهب الباطلة عندهم استعداد للتخلي عن مبادئهم عند أي مصلحة تلوح في الأفق، فليس لهم مبدأ يحكمهم، ولا عقيدة يلتزمون بها تنظم حياتهم وتوجههم، فالاستقسام بالأزلام واتباعها من عقائد المشركين، ولكن ها هو سراقة يستقسم بالأزلام هل يضر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فيخرج لا يضرهم، يفعل ذلك مراراً فيخرج الذي يكره، فيعصي الأزلام ويلحق بهم لأن مصلحته تقتضي ذلك.
50- القرآن الكريم زاد المسلم في كل حال، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة الحال وقرب الخطر منه يقرأ القرآن وينشغل به حتى قرب منه سراقة وسمع تلاوته.
51- إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل كما يقال، ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال، فهذا سراقة يتحول من ملاحق لهم إلى مخبر عن كل ما يكاد لهم من مكائد، قال سراقة: (( فأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم )) وهكذا نصر الله وتأييده ينقلب به العدو المطارد لهم إلى ناصح معين.
52- استغناء الرسول صلى الله عليه وسلم عن متاع سراقة وزاده على الرغم من عرضه عليهم ذلك، قال سراقة: (( وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني )) وهذأ برهان عظيم لسراقة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن تقوده مصلحة دنيوية ومطلب مادي، وإنما يسعى لهدفٍ سامٍ ينبغي على سراقة أن يعمل ذهنه فيه.
53- توظيف الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة فيما يخدم الهجرة ولا يضير المسلمين إن لم يفعل ذلك وهو إخفاء أثرهما عن الناس، فلم يعطه سراً ولم يكل إليه عملاً مهماً.
54- فراسة سراقة وبعد نظره، فقد طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب أمان وهو المطارد الملاحق.
55- لقد ملأ الرسول صلى الله عليه وسلم قلبه وجوارحه ثقة بالله تعالى وتأييده ونصره له فيكتب لسراقة كتاب أمان ولم يقل كيف تطلب ذلك مني وأنا الشريد المطارد.
56- توجه الصحابة إلى التجارة والاستغناء عن الخلق والاعتماد على النفس، وتمويل الدعوة ذاتياً، فقد خرج الزبير مع بعض المسلمين تجاراً إلى الشام وفي طريق رجوعهم التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة.
57- شدة اهتمام الأنصار بالهجرة النبوية، وترقبهم لوصول القافلة الشريفة، واتخاذ جميع الترتيبات والاحتياطات الأمنية لاستقباله.
58- وفي إلحاح والد البراء بن عازب على أبي بكر بإخباره بأمر الهجرة دلالة على اهتمام الصحابة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
59- لا بأس بالحديث عن العمل الصالح إذا عزم عليه أخوه المسلم، وكان يرجى من ذكره النفع والفائدة، كما عزم عازب على أبي بكر بذلك وتحديث أبي بكر له بأمر الهجرة